ما أجمل قراءة ودراسة التاريخ ، فالتاريخ من المجالات التي يستمتع بقراءتها الكثيرون لما فيه من أحداث و قصص وعبر ودروس مستفادة . لكن ماذا يحدث لو اختفت قصص البطولات والنماذج الرائعة من حياة البشرية ومن التاريخ ؟ هل سيظل للتاريخ نفس الطابع الممتع عند قراءته ؟ إن الإجابة المتوقعة تأتي بالنفي ، وبخاصةٍ أنه لا أحد ينكر أهمية البطولة في حياة البشر، فمن خلالها يتم تجسيد العديد من القيم والمعاني النبيلة في حياتنا ، ومن خلالها تتم نصرة الحق وإزهاق الباطل . ومن هنا فإننا نتفق على أهمية وجود البطولات في حياتنا .
وبدايةً للموضوع فإنني أرى أنه من الأجدى أن نفهم المعنى الحقيقي للبطولة ، فالبعض يعتقد أن البطولة هي الشجاعة والجرأة ، ولكن الملاحظ في هذا الزمن أن البعض لديهم الشجاعة في القيام بأعمالٍ لا تتفق مع دين أو عرف أو تقاليد ، وإذا ما اعتبرنا البطولة شجاعة فينبغي أن نقول أنها الشجاعة في القيام بالأعمال والمواقف النبيلة التي تدعم ثوابت المجتمع المسلم ، وهذا مطلوب بل وينبغي السعي إلى تدعيمه والحرص على استمراره.
وهنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه قائلاً : هل من الضروري أن نربى أبناءنا على البطولة ؟
إننا قد نضغط على أبنائنا في بعض الأحيان ليقوموا بمهام معينه ، أو نطلب منهم أن يتمثلوا شخصيات معينة إذا كانت تربيتنا لهم قائمة على مطالبتهم بالبطولة في معناها السابق ، وهذا أمرٌ مخالفٌ لأحد مبادئ الدين الإسلامي وتربيته الإسلامية التي تقوم بدون شك على التفاوت والتنوع بين البشر ، فالحق تبارك وتعالى جعل الخلق متفاوتين في الصفات والقدرات والطاقات والمهارات لتستمر الحياة ، وليشعر كل فردٍ منا بحاجته للأخر، وليكون بيننا نوعًا من التكافل والتضامن ، وبذلك يصبح المجتمع نسيجًا واحدًا مترابطًا .
والمعنى أنه ليس من الضروري أن يصبح أبناؤنا أبطالا أو قادة أو زعماء ، فتاريخنا الإسلامي زاخرٌ بنماذج عديدة للبطولة والتميز في مجالات عدة ، وفي ميادين مختلفة ، وفي مناحي متعددة من مناحي الحياة . فمثلا كان الصحابي الجليل حسان بن ثابت مبدعا في الشعر ، وكان سيدنا خالد بن الوليد بطلا في الحرب والقيادة ، وكان سيدنا عبد الرحمن بن عوف أنموذجا في البذل والعطاء ، ... إلخ ، ولعل هذه النماذج وغيرها تشير وتؤكد أن في داخل كل إنسان نقاط تميز وإبداع ، وهي ما يُسمى في عالم التربية بالاستعدادات والقدرات ، وأن علينا أن نحرص بشتى الطرق على تنميتها ورعايتها وصقلها وتشجيعها ، ومن ثم يصبح لدينا في المستقبل القريب : الأديب ، والعالم ، والمفكر ، والرياضي ، والعامل ، والصانع ، وغيرهم من المتميزين والمبدعين في خدمة الدين والوطن والأُمة .
إن هذه دعوة لإعمال العقل ، والتفكير في القيم والمفاهيم التي نربى عليها أبناءنا . وعلينا أن نحرص على التعامل معهم بالرفق والرحمة ؛ فقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم رفيقا بالصغار ولطيفًا في تعامله معهم . وإذا كنا في الوقت الراهن نعانى كأُمةٍ مُسلمةٍ من كثيرٍ من الضغوط التي لا تترك لنا في كثيرٍ من الأحيان مجالا للاهتمام برعاية وتربية أبنائنا ، فعلينا أن لا نرهقهم بمطالبتهم بأن يكونوا مثل قدواتٍ ونماذج ليست ماثلة أمامهم ، ولا معلومةً بالنسبة لهم ، وعلينا أن ندرك أن من أعظم ما انعم الله به على الإنسان أن جعل له ذرية هم زينه الحياة الدنيا . وأن نعلم أن أول حقٍ للأبناء عند الآباء ما يُعرف بحسن التربية ، وجميل الرعاية ولاسيما من خلال القدوة الصالحة والأُسوة الحسنة ، وبخاصةٍ أن مصاحبة وملازمة الطفل لوالديه في هذا العمر تجعل التعلم لديه يتم بالقدوة والمحاكاة ، وكُلنا نعلم أهمية السنوات الأولى من عمر الطفل ، فهي مرحلة تشكيل للشخصية من خلال ما يسمعه ويشاهده ويشعره به ، وتكون النتيجة أن يتأثر بذلك التشكيل وجدانيًا ، أو عقليًا ، أو خلقيًا .
فيا أيها الآباء والأُمهات ، عليكم باستثمار أوقاتكم مع أبنائكم ، ووجهوهم وأرشدوهم ، وكونوا قدوة لهم في البطولة والرحمة والصبر ، فالرحماء يرحمهم الرحمن .
لدكتوره / غادة حمزة الشربينى
أستاذ أصول التربية المساعد – بكلية التربية جامعة الملك خالد
موقع تربيتنا